فصل: قال سيد قطب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة قيل: أين أبناء الستين؟ وهو العمر الذي قال الله: أو لم نعمّركم ما يتذكر فيه من تذكر» وفي إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي، وفيه مقال.
وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، والنسائي، والبزار، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعذر الله إلى امرىء أخر عمره حتى بلغ ستين سنة».
وأخرج عبد بن حميد، والطبراني، والحاكم، وابن مروديه عن سهل بن سعد مرفوعًا نحوه.
وأخرج ابن جرير، عن عليّ بن أبي طالب قال: العمر الذي عيرهم الله به ستون سنة.
وأخرج الترمذي، وابن ماجه، والحاكم، وابن المنذر، والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك» قال الترمذي بعد إخراجه: حسن غريب لا نعرفه إلاّ من هذا الوجه، ثم أخرجه في موضع آخر من كتاب الزهد، وقال: هذا حديث حسن غريب من حديث أبي صالح عن أبي هريرة، وقد روي من غير وجه عنه.
وأخرج ابن جرير، وابن مردويه عن ابن عباس في هذه الآية قال: هو: ستّ وأربعون سنة.
وأخرج ابن جرير عنه أيضًا قال: العمر الذي أعذر الله إلى ابن آدم فيه بقوله: {أَوَ لَمْ نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} أربعون سنة.
وأخرج أبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والدارقطني في الأفراد، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، والخطيب في تاريخه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: قال: «وقع في نفس موسى هل ينام الله عزّ وجلّ؟ فأرسل الله إليه ملكًا، فأرّقه ثلاثًا، وأعطاه قارورتين في كلّ يد قارورة، وأمره أن يحتفظ بهما، فجعل ينام، وتكاد يداه تلتقيان، ثم يستيقظ، فيحبس إحداهما على الأخرى حتى نام نومة، فاصطفقت يداه وانكسرت القارورتان قال: ضرب الله له مثلًا إن الله تبارك وتعالى لو كان ينام لم تستمسك السماء، والأرض».
وأخرجه ابن أبي حاتم من طريق عبد الله بن سلام: أن موسى قال: يا جبريل هل ينام ربك؟ فذكر نحوه.
وأخرجه أبو الشيخ في العظمة، والبيهقي عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه: أن موسى، فذكر نحوه.
وأخرج الفريابي، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: إنه كاد الجعل ليعذب في جحره بذنب ابن آدم، ثم قرأ {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} الآية. اهـ.

.قال القاسمي:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ} أي: رحمته، وعنايته، ولطفه، وإمداده في كل لمحة ونفس، وسر وصل الآية بما قبلها من التهكم بالأنداد، لتذكيرهم الالتجاء إليه تعالى، والتضرع والابتهال إذا مسهم الضر، وأخذت البأساء بمخانقهم، فإنهم يشعرون من أنفسهم دافعًا إلى سؤاله لا مردّ له. وحاثًّا إلى اللجأ إليه لا صاد عنه، كما بين في غير آية، مما يدل على أنه تعالى هو الحقيق بالعبادة، لغناه المطلق، كما قال: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي: المحمود لنعمه التي لا تحصى.
{إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي: بممتنع. قال الزمخشري: وهذا غضب عليهم، لاتخاذهم له أندادًا، وكفرهم بآيه، ومعاصيهم، كما قال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ} [محمد: 38].
{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي: لا تحمل نفس آثمة: {وِزْرَ أُخْرَى} أي: إثم نفس أخرى، بل إنما تحمل وزرها الذي اقترفته، لا تؤخذ نفس بذنب نفس؛ كما تأخذ جبابرة الدنيا الوليّ بالوليّ، والجار بالجار، ولا يرد آية: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]؛ لأنها في الضالين المضلين، وأنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم، وذلك كله أوزارهم، ما فيها شيء من وزر غيرهم.
{وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} أي: نفس أثقلتها الأوزار: {إِلَى حِمْلِهَا} أي: إلى حمل بعض أوزارها ليخفف عنها: {لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ} أي: لم تجب ولم تُغث بحمل شيء: {وَلَوْ كَانَ} أي: المدعو المفهوم من الدعوة: {ذَا قُرْبَى} أي: ذا قرابة من الداعي، من أب أو ولد أو أخ، وهذا قطع لأطماع انتفاعهم بقرابتهم، وغنائهم عنهم، وأنه لا تملك نفس لنفس شيئًا، وأن كل امرئ بما كسب رهين، ثم بين من يتعظ ويتذكر؛ فقال سبحانه: {إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّى} أي: تطهر من أوضار الأوزار: {فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ}.
{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} مثل الكافر والمؤمن.
{وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ} مثل للحق والباطل.
{وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ} مثل للثواب والعقاب و: {الْحَرُورُ} الريح الحارة بالليل، وقد تكون بالنهار.
{وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاء وَلَا الْأَمْوَاتُ} تمثيل آخر للمؤمنين والكافرين أي: ما يستوي أحياء القلوب بالإيمان بالله ورسوله، ومعرفة تنزيله، وأموات القلوب؛ لغلبة الكفر عليها حتى صارت لا تعقل عن الله أمره ونهيه، ولا تعرف الهدى من الضلال: {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء} أي: يوفقه لفهم آياته والاتعاظ بعظاته: {وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ} أي: كما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب الله، فيهديهم به إلى سبيل الرشاد، فكذلك لا يقدر أن ينتفع بمواعظ الله وبيان حججه، من كان ميت القلب عن معرفة الله وفهم كتابه وواضح حججه. وهذا ترشيح لتمثيل المُصرّين على الكفر بالأموات، وإشباع في إقناطه عليه الصلاة والسلام، من إيمانهم.
{إِنْ أَنتَ إِلَّا نَذِيرٌ} أي: ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر، فإن كان المنذَر ممن يسمع الإنذار نفع، وإن كان من المُصرّين فلا عليك.
{إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ} أي: وما من أمة من الأمم الدائنة بملة، إلا مضى فيها نذير من قبلك ينذرهم على كفرهم بالله، ويزيح عنهم العلل كما قال تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] وكقوله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل: 36].
{وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} أي: وإن يكذبوك ولم يستجيبوا لك، فلا تبال بهم وتأس بمن كُذّب من الرسل السالفة، فقد جاءوهم بالآيات، والخوارق المحسوسة على صحة نبوتهم، وبالصحف المرشدة لهم إلى مسالك الفلاح والنجاح، وبالكتاب المنير لمن تدبره وتأمله، أنه الحق الناطق بالصواب والصدق، وليس المراد أن كل رسول جاء بجميع ما ذكر، حتى يلزم أن يكون لكل رسول كتاب، بل المراد أن بعض الرسل جاء بهذا، وبعضهم جاء بهذا، وجوز أن يراد بالجميع واحد، والعطف لتغاير الأوصاف.
{ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي: إنكاري بالعقوبة، وفيه مزيد تشديد وتهويل لها.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} قرأ الجمهور: {جُدَدٌ} بضم الجيم وفتح الدال، جمع جُدة بالضم، وهي الطريقة من جدَّه إذا قطعه، أي: ومن الجبال ذوو جدَد، أي: طرائق بيض وحمر، وإنما قدر المضاف؛ لأن الجبال ليست نفس الطرائق. وغرابيب: جمع غربيب وهو الأسود المتناهي في السواد، يقال: أسود غربيب، كما يقال: أحمر قان، وأصفر فاقع، تأكيدًا. وإما قدم هنا، ومن حق التوكيد أن يتبع المؤكد للمبالغة، ورأى بعضهم أنه مقدم من تأخير، ذهابًا إلى جواز تقديم الصفة على موصوفها.
{وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} أي: اختلافًا كذلك، أي: كاختلاف الثمرات والجبال. وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} تكملة لقوله تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} [فاطر: 18]، بتعيين من يخشاه عز وجل من الناس، بعد بيان اختلاف طبقاتهم، وتباين مراتبهم، أما في الأوصاف المعنوية فبطريق التمثيل، وأما في الأوصاف الصورية فبطريق التصريح، توفية لكل واحدة منهما حقها اللائق بها من البيان؛ أي: إنما يخشاه تعالى بالغيب، العالمون به عز وجل، وبما يليق به من صفاته الجليلية، وأفعاله الجميلة؛ لما أن مدار الخشية معرفة المخشي والعلم بشئونه، فمن كان أعلم به تعالى، كان أخشى منه عز وجل. كما قال عليه الصلاة والسلام: «أنا أخشاكم لله وأتقاكم له». ولذلك عقب بذكر أفعاله الدالة على كمال قدرته، وحيث كان الكفرة بمعزل من هذه المعرفة، امتنع إنذارهم بالكلية. أفاده أبو السعود.
وقال القاشاني: أي: ما يخشى الله إلا العلماء العرفاء به؛ لأن الخشية ليست هي خوف العقاب، بل هيئة في القلب خشوعية انكسارية عند تصوّر وصف العظمة، واستحضاره لها، فمن لم يتصوّر عظمته لم يمكنه خشيته، ومن تجلى الله له بعظمته، خشيه حق خشيته، وبين الحضور التصوّري الحاصل للعالم غير العارف، وبين التجلي الثابت للعالم العارف- بون بعيد- ومراتب الخشية لا تحصى بحسب مراتب العلم والعرفان. انتهى.
ويذكر بعض المفسرين هنا القراءة الشاذة. رفع الاسم الجليل ونصب العلماء، ويتأولون الخشية بالتعظيم استعارة، وربما استشهدوا بقوله:
أَهَاْبُكَ إِجْلَاْلًا وَمَا بِكَ قُدْرَةٌ ** عَلَيَّ وَلَكِنْ مِلْءُ عَيْنٍ حَبِيْبُهَا

وقد طعن في النشر في هذه القراءة، والحق له؛ لمنافاتها للسياق والسباق، وما أغنى المنقحين عن تسويد الصحف بمثل هذه الشواذ! وبالله التوفيق.
{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} أي: غالب على كل شيء بعظمته، غفور لمن تاب وأناب وعمل صالحًا.
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} أي: يداومون على تلاوته وتدبره، للأخذ بما فيه: {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} أي: أجرًا وفضلًا لا يفنى، والتجارة استعارة لتحصيل الثواب بالطاعة، والبوار بمعنى الكساد والهلاك ترشيح للاستعارة.
{لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} أي: لأعمالهم، والشكر مجاز عن الإثابة والجزاء بالإحسان.
{وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} أي: ثم، يعد أخذ الذين كفروا، أورثنا الكتاب الذي هو أعظم فضل، وعناية، ورحمة، المصطفين من الموحدين. ثم بين انقسامهم في العمل به إلى ثلاثة، بقوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} أي: بالإثم والعصيان: {وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ} أي: في العمل، ليس من المجرمين، ولا من السابقين: {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}.
{جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ}.
{الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ} أي: الإقامة: {مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} أي: تعب: {وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} أي: كلال.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} أي: أو ما عشتم في الدنيا أعمارًا ينتفع فيها من يتذكر ويتبصر؟ قال قتادة: اعلموا أن طول العمر حجة. فتعوذ بالله أن تغتر بطول العمر، وقد نزلت هذه الآية، وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة.
{إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} أي: مستخلفين فيها، أباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة: {فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إلا مقتا} أي: بغضًا شديدًا {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا}.
{قُلْ} أي: تبكيتًا لهم: {أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} أي: شركة في خلقها: {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّنْهُ} أي: حجة وبرهان، بأنه أذن لهم في الإشراك: {بَلْ إِن يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} أي: في قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله.
{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا} أي: ما أمسكهما: {مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} يعني إنزال العذاب على الذين كذبوا برسلهم من الأمم قبلهم: {فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} وفي معنى الآية قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا} [الأنعام: 156- 157]. وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الصافات: 167- 170].
{أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا} أي: بما اقترفوا من معاصيهم: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} أي: من نسمة تدب، لشؤم معاصيهم، والضمير للأرض لسبق ذكرها: {وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} أي: يؤخر عقابهم ومؤاخذتهم بما كسبوا إلى أجل معلوم عنده: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} أي: فإذا جاء أجل عقابهم فإن الله كان بعباده بصيرًا بمن يستحق أن يعاقب، وبمن يستوجب الكرامة. اهـ.

.قال سيد قطب:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)}.
مرة أخرى يرجع إلى الهتاف بالناس أن ينظروا في علاقتهم بالله، وفي حقيقة أنفسهم؛ ويرجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بالتسلية عما يلقى، والتسرية عما يجد من إعراض وضلال كالشأن في المقطع الثاني من السورة ويزيد هنا الإشارة إلى أن طبيعة الهدى غير طبيعة الضلال، وأن الاختلاف بين طبيعتهما أصيل عميق كأصالة الاختلاف بين العمى والبصر والظلمات والنور والظل والحرور والموت والحياة. وأن بين الهدى والبصر والنور والظل والحياة صلة وشبهًا؛ كما أن بين العمى والظلمة والحرور والموت صلة وشبهًا! ثم تنتهي الجولة بإشارة إلى مصارع المكذبين للتنبيه والتحذير.
{يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز}.
إن الناس في حاجة إلى تذكيرهم بهذه الحقيقة في معرض دعوتهم إلى الهدى، ومجاهدتهم ليخرجوا مما هم فيه من الظلمات إلى نور الله وهداه. في حاجة إلى تذكيرهم بأنهم هم الفقراء المحاويج إلى الله. وأن الله غني عنهم كل الغنى. وأنهم حين يدعون إلى الإيمان بالله وعبادته وحمده على آلائه فإن الله غني عن عبادتهم وحمدهم، وهو المحمود بذاته. وأنهم لا يعجزون الله ولا يعزون عليه فهو إن شاء أن يذهب بهم ويأتي بخلق جديد من جنسهم أو من جنس آخر يخلفهم في الأرض، فإن ذلك عليه يسي.
الناس في حاجة إلى أن يذكروا بهذه الحقيقة، لئلا يركبهم الغرور وهم يرون أن الله جل وعلا يعنى بهم، ويرسل إليهم الرسل؛ ويجاهد الرسل أن يردوهم عن الضلالة إلى الهدى، ويخرجوهم من الظلمات إلى النور. ويركبهم الغرور فيظنون أنهم شيء عظيم على الله! وأن هداهم وعبادتهم تزيد شيئًا في ملكه تعالى! والله هو الغني الحميد.